arablog.org

لا يقصدني هذا الجسد

كلما حاولت أن تتبؤكَ،َ يسألُكَ بَعيدٌ مَا بكَ : أَيُّ تَعَبٍ أَنَتَ ؟ رُبَما أَنَتَ مُسودَةٌ لله، مُسوَدة مَشْطُوبَةُ الْوُجُود. وُجُودكَ لَيْسَ إلّا تَمْرينَاً لِيُوجَدَ الآخرُ صَحِيحَاً. وإلا لماذا سُؤالكَ الدؤوب :
“مَاذَا أعنِّي ليّ ؟” يجبركَ أن تفكر طَوِيلَاً. أَطوَلَ مِمَّا كَنتَ تَعْتَقِدُ أَنَّه سَيُجْبِرُكَ سُؤَالٌ مَا بالتفكير مُطولاً .. صَحِيح، إِنَّه حَقَا مِنْ بَيْن الأسئلةِ الْقَلِيلَة الَّتِي غَشَّاكَ عَلَى إثرِهَا تَنَاقُضٌ غَامِضٌ بَيْنَ إلحاحكَ فِي إنهَائهِ ورغبتكَ عَلَى استمراره. تَمامَاً كَسُؤَالِكَ ذَاتَ صَدٍّ لَهَا لِمُحَاوَلَاتِكَ الْهَشَّة فِي إهداء نَبْضِ قَلبِها الخَائفِ، إيقاعاً آخر أَكْثَرُ مُوسِيقِيَّةً مِنْ إيقَاعه الْآنْ الرَّتِيبْ. سُؤَالُكَ : مَا الَّذِي يَحْدُثْ ؟
“لَا أَعنْي لِي شِيئَا، غَيْرَ عتمةٍ أَتَّكِئُ عَلَيهَا لِأُشْبِهَ الْكَائِنَاتِ الرِّخْوَة. عَتمةٌ يُسمُونَها جَسَدَاً” الكائنات التي تتورطُ نظراتها في شفقةٍ صفراء تَختصرني بدقة تماماً كما يصنع المَوت كُلما رأتني أشاركهم زمنهم.
تُحاورُ ذاتكَ دائماً كلما ابتسمتْ لكَ كاعتذار لبقٍ لنظراتكَ العاشقة، وتقول في سركَ : “إلهي :أريدُ أن أقفَ على حَافة العَالم و أصرخَ :أحبّهـــا. أشتهي أن أضع أصيص زَهرٍ على شُرفة مُطلقةٍ وأهربْ. أشتهي أن أكتبَ رسالة لِجُندي مَنسي في دار عَجزة بالمدينة القديمة وأهرب، أشتهي أن أضعَ تاج فراشات على صَبية نائمة على الرصيف وأهرب، أشتهي أن أترك خمسة دراهم في جَيب صَديقي الصَغير صبيحة “المُوسم” وأهرب، أشتهي أن أُذكر عَجوزاً مُصابة بالزهايمر بإسم حبيبها الرَاحل وأهرب .. أَهكذا يا إلهي سَأكونُ أُحبّهــــــــــــــــا ؟ لكن إلى الهروب. طبعاً إلى السقوط تلو السقوط..
لطالما حلمتُ أن أكون أطول منها. كم هُو لذيذ سؤالها ذات حُلمٍ : لماذا أنتَ طويل ؟ سأُجيبها بكل تأكيد : لِأُجَرِّبَ كَيْفَ يراكِ اللهَ فوقاً. وَلِأُطَّهِرَ عينيّ بِرُؤَى اللهِ ثُمَّ أراكِ وَ أقْتَبِسُ مِنْ رِئَةِ السَّمَاءِ رُؤْيَةً أراكِ بِهَا. يا أنتِ أَنَا أَحِمِلُ طِفْلَتَنَا اللامَرئية عَلَى كتفيّ فَأَبْدُو طَوِيلاً. أَلَا تَرِينهَا ؟
تُنزلني من على باص المركز، لا يكفُ وجهها عن الإبتسام، تنشغلُ بتوظيب كرسيّ المتحرك وسائق الباص المُزعج دائماً يُصر أن يقحم اللحظة في زَمنهم ـــ الزمن الذي لستُ أفهم لماذا يَقيسون به كل لحظاتهم، لستُ أستطيع أن أقيس عَالمي بغير طرفات عيونها وهي تراني. إنها زمني ـــ طالباً منها أن تُسرع. لا تُجيب لكنها تبتسمُ بتؤدةٍ. تدفع الكرسي المُتحرك بخفةٍ شاعرية. فأُحس بالحياة وَرائي. هكذا عشقتُ ظِلي. الحياةُ تأتيتي وراءً تماما كما كالهواء الَّذِي يُحَركُ سُفُنَ الأطفال الْمَصْنُوعَة مِنْ “خنيشات” الْحَلِيب وَيَصْرُخُونَ بِنَشْوَةٍ وَراءها. و الْهَوَاءُ الَّذِي يُطْفِئُ شُمُوعَ عِيدِ الْمِيلاَد. و يُجَرِّبُ الشَّغَبَ أيضاً حِينَ يَنْفُثُّ الصَّدِيقُ فِي أُذنِ صَاحِبِهِ عَلَى غَفْلَةٍ ..
هَذَا الْهَوَاءُ هو عينه الذي يحمِّلُ أَحَجّارَ الصّبيّةِ أَعلَىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَيُغْرِي الْقِطَعَةَ النّقدِيَّة لِتَعْلُو وَتُحَدّدَ وِجْهَةَ فَرِيقٍ الأطفال. ربما هواية الهواء أن يدفع من الخلف بالأشياء والذوات إلى الأمام. لكن هوايتي أنـا أَن أَرَّاهَا فِي كُلِّ هَذَا الْهَوَاءِ، وَأُجَرِّبَ الْبَصَرَ فِي كُلِّ هَذهِ الْحَيَوات.
ـــ هَل يُزعجك السائق البدين ؟
ـــ لا أهتم لشأنه. لكني أحبّ صدقه في غضبه معنا. يُحسسني أني متفوقٌ على نقص جسدي. وأشبهكم.
ـــ يا عزيزي أنتَ كاملٌ جداً حدّ الذي يُربك المَرئي. نقاؤك أربكه حتى ارتبك في شكلك. فصرت هكذا. اللامرئي فقط من يستحقكَ عزيزي.
تُقبل رأسي. فأشعر بطيني يَتشققُ. لا تستطيع هذه القارورة الطينية أن تَحتمل كُل هذا الحجم من الحياة داخلي. يا إلهي إن جسدي يُكذبني ويُصدقها. يُكذبّ أني مُعاقٌ ، ويُصدقُ رؤيتها التي تراني بِها. لا أشعر أنه لي. أَحَقَاً يَا إلهي : أَنَا هذَا الَّذِي تَقْصِدُهُ بجسدي أَمْ هَذَا سَهْوٌ جَسديّ ؟
الآن تنسابُ أغنية الغيوان (سهــْلا وأهْلا بك يالنـّحـــْـلة وهنيـّة يالصّايلة صلـْت ع:لــَطيـارْ

غنّــي بيـــن النـّهــرْ والـزّهــرْ وخدودْ الزّينْ والعيونْ المــحّــــارة)
وأنتَ تُسلم رأسكَ للحلاق يُرتب شكله لشيء ما لا تدري جدواه. تتذكر كيف كانت تُلوح بيدها وهي تُغادر مركز ذوي الاحتياجات الخاصة صوب جغرافية بعيدة مـا. لماذا الهُنا لاَ يحمينا من البَعيد ؟ حزنٌ عَميقٌ يتكئ على عينيكَ كلما نزلت من على الباص، فيُرتب لكَ دمعتين خفيفتين تعلم أنهما لن تحميك من أية أعطاب، و لا من ذاكرتكَ ذاك الجرحُ المبثوث فيكَ دائماً.
غادرتكَ إلى إسبانيا، ما وراء البحر. حيث ستستقر مهنياً وستواصل رسالة الدكتوراه. الآن البحر يفصلكما. تبا هكذا صار البحر ــ بعدما كان عَزائي ـــ النية السيئة للأرض.
خلفكَ يجلس طالب جاء لمركز ذوي الاحيتاجات الخاصة لأجل بحث الماجستير، يسألكَ :
ـــ أريد أن أتوغل في الخريطة السرية للمعاقين، عفواً أقصد ذوي الاحتياجات الخاصة. هل سبق وأن أحببت ؟ هل تظفر بحقك في حبّ فتاة ؟ كيف هو نشاطك الجنسي ؟
كي تتفادى أية أجوبة أخرى، أجبته على مضض وبضغط متعمد على الكلمات. وأنت في جوانيتك تقنع ذاتكَ بهذه الحقيقة :
ـــ سيدي جسدي مسودة للطبيعة. تمرينٌ تحضيري لتأتي أنتَ هكذا سليماً ومقبولاً وتتعلم لعنة السؤال ..

أرضية نظرية للصالون الأدبي سانتا كروز بأكادير


تجربة الصالون الأدبي تقدم إسهاماً نوعياً في الإمتداد الثقافي والإنساني للكائن الجنوبي، الذي آمن منذُ قرون أن الثقافة عمق إنساني و مدخل وحيد لإدراك الذات و الإنفتاح على الآخر، نحو مُثاقفة إيجابية. الصالون الأدبي سانتاكروز هو موقف جمالي يُحاول بمسؤولية و رغبة جادة وخلاقة في تصويب الرؤى الشبابية للإنخراط في الفعل الثقافي و الأدبي لترميم هذا الشرخ في المشهد الثقافي الوطني عموماً و المحلي خصوصاً.
الصالون هو مساحة مُشتركة و نوعية في بلورة أسئلة أدبية و فكرية و هوياتية عن الأنـا و الآخر، وفضاء يُموقع الثقافة في موقعها الإعتباري و التشيدي لإنسان يُؤمن بالتعدد والاختلاف و الحوار كأفق إنساني. تجربة الصالون هي سُؤال شبابي جنوبي لـ”نموذجية” المركز حول مدى إعتباره لأدب الهامش إستثنائيةً زمنيةً ووجودية تمارس التناقض مع قوة المركز. وتخلق وعياً بالإختلاف والتعدد واللامألوف واللاجاهز.
فعلنا الثقافي هو أدب شبابي يُمخض الأسئلة ويحتفي بالمواهب الشابة المُغيبة في رقع الضوء، تعيد انتمائها للهُنا و الآن. كتأمل إحتجاجي من موقع مُهمش يدشن أفاقاً تليقُ بتطلعات الكائن الجنوبي و موقعه في الصيرورة الثقافية الإنسانية.
هذه التجربة الشبابية ستحتفي ـــ كما احتفت ـــ بتجارب شبابية حاولت شعرنة اليومي، و تفكيك تفاصيلها اليومية في تأملات و أسئلة مسكونة بالألم حيناً و بالحبّ و السلام حيناً آخـر. الصالون الأدبي يُعمق إدراكه لفعل الكتابة و الثقافة من إمكانيات جد متواضعة تعتقد ــ عقيدةً ــ أن الكتابة و الأدب كفاح خلاق و جمالي لترميم هذا العالم الموبوء بالنمطي والرداءة و العنصريات و الرؤى الحدية للآخر وللعالم. هذه الإمكانيات المحتشمة تدافع عن الإستقلالية في الفعل و الحرية في الكتابة و دَمقرطة مواقع الضوء كشروط موضوعية حتمية لخلق إقلاع ثقافي و ولادة إنسان يؤمن بالثقافة و التعدد والإختلاف و التحرر.
موقعنا إذن في الخريطة الثقافية و الأدبية المحلية هو رفض الكليات وإنتاج تحرر فعلي من قطبية المرغوب والمؤطر والتاريخي الرسمي ومن كل ما هو مؤسساتي، ويتحدى أي إرادة في التحديد والنمذجة. هكذا يتقاطع في نطاق موقعنا البعد الأنطولوجي والفلسفي والأدبي والثقافي.
وفي هذا السياق إرتأينا الإنخراط كلية في هذه الهوية اللامتحددة والمنفتحة على تعدد لا نهائي للأشكال، وجدلية لا تتوقف عن تشكيل ملامح الوعي بالإختلاف، عبر التفاعل مع حركية الفعل الثقافي على مستوى مدينة أكادير بتداخل أسئلته وإشكالاته وطموحاته وكائنه وممكنه. من خلال برمجة سلسلة من اللقاءات الأدبية والثقافية تروم الخروج من محدودية المألوف والفعل العام، وتضخ دماء جديدة بالمشهد الثقافي وتنفتح بشكل لامشروط على النَفَس الإبداعي الشبابي، وخلق فضاءات لتلاقح التجارب الإبداعية ومواكبة الفعل الإبداعي الشبابي الرصين والمسؤول الذي يليق بحجم الطموحات والأسئلة للكائن الجنوبي.

الجدل الديني : جدل القرآن مع اليهود و النصارى (الجزء الأول)

لقد كان نزول الوحي على نبي الإسلام محمد يصطدم بين آونة و أخرى بطوائف دينية مختلفة و متعددة النزعات. فكل طائفة تدعي أن دينها هو أقوم الأديان و أفضلها و أن مقدساتها أشرف المقدسات, لقد نشب جدال عنيف بين طائفتين كبيرتين هما اليهود و النصارى و قد أشار القرآن إلى جدالهما بقوله : وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [ ص: 73 ] و قوله كذلك : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون [التوبة: 30 ] .

لما جاء الإسلام كان من بين الديانات التي عارضته و قاومته بشدة و اتخذت منه موقفا عدائيا ; الديانة اليهودية و الديانة النصرانية مع شيء من اللين و التأدب في النقاش, لقد كان اليهود أشد عداوة و كيدا للإسلام فعندما نزل الوحي و تضايق النبي من إيذاء الكفار له هاجر |إلى المدينة المنورة التي استقبلته بالترحاب و ناصرت دعوته و كان بالمدينة آنئذ طائفة قوية من اليهود , أما النصارى فباعتبار بعدهم عن المدينة و انعزال القساوسة و الرهبان في الأديرة , كان اصطدامهم مع الإسلام أخف و يشير القرآن إلى ذلك بقوله : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون [ المائدة: 82 ] .

إن الجدال الذي دار بين القرآن و اليهود تناول مشكلات كثيرة : منها النبوة و الأنبياء و منها ما يتعلق بذات الله و صفاته, إن اليهود قد أنكروا أن يكون محمد نبيا مرسلا حيث أنكروا كذلك من قبل نبوة المسيح عيسى بن مريم و طعنوا في أمه مريم طعنا شديدا , في حين يعترف القرآن بعيسى و برسالته كنبي و بغيره من الأنبياء و المرسلين أما فيما يتعلق بطبيعة الله فيختلف القرآن عن اليهودية اختلافا كبيرا في فهم طبيعته, و من هنا يرى القرآن أن الله منزه تنزيها كليا عن التشبيه و التجسيم لقول الآية : قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد [ الإخلاص: 1,2 ] و ترى الديانة اليهودية أن لله جسما مثل جسم الإنسان و أن أحد أنبياء بني إسرائيل الذين ذكرهم القرآن هو ابن الله .

إن القرآن قد بين بكل وضوح الصفات الدينية التي يتصف بها اليهود كفساد الأخلاق و الكذب على الله و الغش في معاملة العباد و إلى ذلك تشير الآية الآتية : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله و الله لا يهدي القوم الظالمين [ الجمعة: 5 ]. فهنا إشارة إلى تغيير الكتاب المقدس من طرف اليهود ألا و هو التوراة حيث تقول آية أخرى : يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين [ المائدة : 13 ]. ثم نجد القرآن يندد بأخلاقهم و كذبهم بقوله : سماعون للكذب أكالون للسحت [ المائدة : 42 ] ثم تضيف السورة : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا [ المائدة : 64 ] ثم نجد في القرآن إشارة أخرى إلى المجهود المتواصل الذي يقومون به في إيقاد نار الفتن و إشعال الحروب و الإفساد في الأرض : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين [ المائدة ] و في الأخير يحكم القرآن عليهم بالذل حين يقول : [ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون] .

لقد جادل القرآن اليهود بعنف لكنه دخل في نقاش مؤدب و هادئ مع المسيحية حول مشكلة تأليه عيسى و حول التثليث (لقد كفر الذين قالوا أن المسيح بن مريم) و تضيف آية أخرى (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) وفي الأخير تحكم الآية بالكفر على اللذين يؤمنون بالتثليث (لقد كفر اللذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة و ما من إله إلا إله واحد) .

الدياليكتيك الهيجلي كمصدر أساسي للدياليكتيك الماركسي

حين كنت أكتب الجزأ الأول من رأس المال كان أبناء الجيل الجديد أولئك الأدباء التافهون يباهون بأنهم ينظرون إلى هيجل نظرتهم إلى كلب ميت, لذا بادرت و أعلنت أنني لست إلا تلميذا لهذا الأستاذ العملاق. (كارل ماركس)

يقول ماركس : إن منهجي الدياليكتيكي لا يختلف عن المنهج الهيجلي من حيث الأساس فقط بل إنه الضد المقابل له أيضا, فالبنسبة لهيجل أن عملية تطور الفكر و نموه هذه العملية التي يشخصها و يعتبرها مستقلة و يطلق عليها اسم ”الفكرة” هي في نظره خالقة الواقع, أما بالنسبة لي فإن عالم الأفكار ليس إلا العالم المادي منقولا إلى الذهن البشري و مترجما فيه .

و قد أشار ماركس إلى الدياليكتيك الهيجلي كمصدر لجدله في نوع من الاستخفاف : ” فدياليكتيك هيجل يسير على رأسه و يكفي إعادته على قدميه لكي نرى له هيئة معقولة تماما ”. و يضيف : إن منهجي في التحليل ليس هو منهج هيجل لأنني مادي و هيجل مثالي; إن دياليكتيك هيجل هو الشكل الأساسي لكل دياليكتيك بعد أن تزال صورته الصوفية و هذا بعينه ما يميز منهجي .

اقتبس كارل ماركس من أستاذه المثالي هيجل منهجه الثوري و رفض جميع آرائه المثالية و الصوفية و قد صرح ماركس في النصوص التي أوردناها أنه يتبنى المذهب المادي , فماديته تختلف تمام الاختلاف عن المادية الميكانيكية الآلية التي سيطرت على مفكري القرن الثامن عشر و التاسع عشر الذي تزعمه فيورباخ , إن المادية الميكانيكية تنظر إلى المادة في حركتها الآلية و تنظر إلى الطبيعة نظرة ميتافيزيقية , هذه النظرة التي تعتبر الظواهر نهائية و ثابتة و هي نظرة تقف عند الطبيعة فقط و لا تتعداها إلى التاريخ حيث رأت أن الفكر هو الخالق للواقع و العامل على تطور المجتمع .

إن المادية الميكانيكية ساذجة إلى حد بعيد عندما اعتبرت أن الدماغ يفرز التفكير و أن الفسفور هو ما يفكر فينا , ماركس يرى أن وجود المادة و المجتمع سابق على وجود الفكر . وليس معنى هذا أن ماركس لا يؤمن بفعالية الفكر بل يعتبر أن الوعي أو الفكر ليس إلا انعكاسا للمادة أو المجتمع و هو قادر على التأثير في المحيط المادي و المجتمعي . و قد لاحظ ماركس أن العيب الرئيسي للمادية الميكانيكية و الماديات الأخرى أنها تنظر للواقع و للواقع المحسوس على شكل تأمل و ليس كفاعلية إنسانية مشخصة .

فالمذهب المادي يرى أن الناس نتيجة الظروف و التربية التي تلقوها لكن يجب أن نلاحظ أنهم قادرون كذلك على تغيير الظروف التي خلقوها, الماركسية تعتبر أن المادة و الوعي يدخلان في علاقة تأثير كل واحد منهما على الآخر و تنظر أيضا إلى المادة و هي تتحرك في حقيقتها أي في الواقع المعاش .

إن المادة تعيش في حركة دائمة : حركة ميكانيكية (المكان), حركة فزيائية (داخل المادة) و حركة كمياوية (تفاعلات) و حركة بيولوجية (الحركة العضوية) و حركة اجتماعية كتطور المجتمع و التاريخ . إن العالم الموضوعي تتجلى فيه هذه الحقائق المادية و هي لا تقف عن الحركة لأنها تحتوي على تناقضات داخلية و الدياليكتيك ليس إلا دراسة هذه التناقضات خاصة الباطنية و الخفية منها .

المكتوب : الحب الأزرق

آآآآه يا صديقي،
هل أتأوه الآن أم أبكي أم أتنهد؟ هل تتصور كيف تخرج تلك الآه؟ كيف أجلس وأحشر رأسي بين ركبتي وأضغط عليه بقوة؟ هل تشعر بالقوة التي أضغط بها؟ هل تعلم أن حشر الرأس بين الركبتين أمر صعب جدا؟ أنا أفعلها. لأن ما يدفعني للأمر شيء صعب أيضا. شيء يجعلني أذرف النار غارقة في الملح، أضغط على رأسي بقوة عل الألم يخرج مع كل ما أذرفه. اليوم أنا عاجزة وأكتشف أن لا شيء وفي. لا شيء باق معك. لا الصوت ولا الصمت، لا اللغة ولا اللون. أكررها مجددا ببطء، لا شيء. في موقف كالذي حدث معك، كل شيء أشاح بوجهه بعيدا وتركني أرتعش وحيدة وعارية. ذلك المساء تخلى عني كل شيء، حتى كأس القهوة لم تساعدني في إلهاء الوقت لأفكر قليلا كيف أرد. و أنت أمامي تقول أنك تحبني، تنظر إلى رأسي المنحني وتنتظر، كلما حاولتُ أن أنطق لأوضح لك، يغرق كل شيء. كان من غير اللائق أن أحمل هاتفي تلك اللحظة، لكنني حملتُه لأكتب ما فشلتُ في قوله، لكن اللغة التي سحبتُ نحوي أيضا، أتتني جوفاء، فارغة. لا أستطيع أن أصدق أن قلبي المذبوح، تحول إلى سكين يجرح قلبا فضيا، اختارني له ماسة زرقاء. لا أستطيع أن أصدق أن قلبي الطافح بالحب، لا يستطيع أن يحبك أو يحب أي أحد آخر. أشعر بضرورة الاعتذار من أي شخص قلت له “أحبك” لم تكن صادقة أبدا.. كانت شيئا لحظيا لم أخسر شيئا في قوله. لم أتوقع أن تنقلب الأمور معي بهذا الشكل. لم أتصور أن يأتي يوم أجلس فيه جلسة اللقاء الأخضر القديم، لكن بشكل معكوس. حين كنت العاشقة المجروحة، كيف أتحول إلى معشوقة جارحة؟ إنني أتألم بشدة. إنني أتأوه وأبكي و أتنهد وأضغط على رأسي بقوة.
آآآآآه يا صديقي،
لماذا أحببت أزرقي؟ لماذا فكرت أن تهديني ديوانا شعريا لسركون بولص؟ لماذا أنت من مواليد برج الأسد؟ لم أنت متصوف في الحب؟ لم قلتَ أنك انفصامي؟ أتعلم أنني أيضا انفصامية جدا؟ تأكدت من ذلك حين سألتني عن اسم الحب الذي اخترتُ أن أحمله بقلبي بدل أن أجن، لأن صاحبه بعيد. أخبرتك عنه معلومة واحدة فقط، فذكرت اسمه بسرعة وثقة غير متوقعة. كان صوتك زلزالا ارتج له قلبي. حركتُ كأس القهوة من مكانه لأفكر قليلا، انفصمت عن نفسي بسرعة البرق كي لا أنهمر أمامك. أنكرتُ بنظرة واثقة، شعرتُ بك تتلصص على عيني اللتان لا تكذبان، جعلتهما حينها يقولان ما أريد، نفيتُ اسم من ذكرت تماما وأقنعتُك أنك على خطأ. سألتك بفضول ماكر وبارد، لم اعتقدتَ أنه هو؟ استغربت من ردك عن الحرارة البادية بيننا، تدلت ملامحي نحو الخارج مستغربة أكثر، سألتك عن أية حرارة تتحدث؟ استدركت حينها أنك قصدت حرارة حديثي عن آخر اصداراته. سأخبرك الآن بأنك كنت على صواب. إنه هو، من اخترتُ أن أحبه إلى ما لانهاية، دون أن أنتظر منه أي شيء، يكفيني أن أتوهم أنه يحبني، سأخبرك بسر يا صديقي.. لا أدري لماذا أؤمن أنه يحبني أيضا، يحبني كما أحبه أنا أو أكثر. حب روحاني مرتفع جدا. حب لا يحتاج حضور الآخر جسديا، حب لا ينتظر أن تمد الكلمات يدها لتساعده على الوقوف. حب سيجعله بنفس القدر بقلبي وإن تحول إلى حجر. أعلم أنني قد أخطئ، أعلم أنني سأخطئ، وأنا أبحث عن طول رقبته، عن لونه، عن الكلف الموضوع على خده بجمال، سأبحث عن سنه الأعوج، عن عينيه الغائرتين الحزينتين الشهيتين، عن ذوقه الفني.. أعلم أنني إن صادفت هذه الأمور سأتقدم نحوها كطفلة. أعلم أنني في لحظة إدراك سأنسحب وأندم قليلا وأمضي. أعلم أشياء كثيرة، لكن علمها لا يغير شيئا.
آآآآآه يا صديقي،
ما كل هذا النزيف؟ لم على الحياة أن تزدحم بالدوائر؟ لم أتى حبك بعد ليلة رأيته فيها مبتسما في وجهي؟ هذه أول مرة أحلم به بهذا القرب. كانت أنفاسه شهيقي. كل ما كان يفصنا، وشاحي الأبيض الشفاف، الذي ألصقته الريح على وجهه المبتسم لأول مرة. أحشر رأسي بين ركبتي وأتأوه، هذا الأزرق الذي أحببتَ، مرتبط بكدمة كلما لمستُها سرى شيء كالموسيقى بروحي. أتعتقد أنني لم أنتبه لقميصك الأزرق خلال موعدنا؟ أنا يا صديقي أنظر و أسمع بحساسية مفرطة، أنا هكذا دون أن أقصد. يا إلهي كم ذكرتني به، أعلم أنه مؤلم جدا أن تجد نفسك تحرث لشخص آخر. لقد ذكرتني بأول موعد لي مع الحب الأزرق قبل خمس سنوات، بالصدفة التي آتى فيها ببدلة زرقاء وأتيتُ بقميص وجينز وحلق باللون الأزرق. ذكرتني كيف تحدث عن حبه للأزرق وكيف ناسبني، أوجعتني الفكرة بكلها، جعلتني أفكر أن من أحبه قد يكون مرتبطا بأزرق امرأة أخرى، لم يستطع حبي لأنه يحب أخرى. قد يكونان الآن معا. لستُ أدري. لا أريد أن أتخيل.. كل هذه الأفكار أطوح بها بعيدا وأؤمن بما أريد وما يريحني. أتعلم ما الذي آلمني أكثر؟ حين قلت أنك ستنهج نهجي، ستحبني بعيدا عني، سيكفيك النظر إلى عيني من حين لآخر، ستكتفي بروحي ما دام القالب لن يتفاعل معك على الإطلاق. هذا موجع، لا أريد لك مكتوبا كالذي أعيش. قلبك المحب شاسع يا صديقي، يستطيع أن يسع كل الألوان. دعني وحدي أتأوه وأبكي وأتنهد.

إشكالات الواقع

تهتم الفلسفة بمشكلة أساسية ربما كانت هي المشكلة الوحيدة التي وجد بها هذا النوع من التفكير من أجلها : مشكلة ماهية أو ذات أو حقيقة أو جوهر الواقع. ما هو الواقع ؟ ما هو الوجود ؟ ما هي مقاييس الواقع ؟ حينما نتكلم عن الواقع ماذا نقصد بهذا اللفظ ؟ ماذا يتبادر لأذهاننا حينما نريد تحديد الواقع ؟ هل الواقع هو ما تتناوله أيدينا ؟ أو يقاوم فاعليتنا ؟ بخلاف الشيء غير الواقعي أي الخيال و الماضي و المستقبل يقول Jules Lagneau : ” الزمان يشكل ضعفي المكان” فهو خارج عن نطاق فاعليتنا و إرادتنا . هل الواقع هو ما تقرره المعايير الاجتماعية ؟ لكن هناك مشكلة : هل العقلية الجماعية صالحة ؟ يقول Braudel فيلسوف فرنسي معاصر : إن مفهومي الموضوع و الموضوعية يختلفان حسب العصور التاريخية و الأشياء تكون موضوعية أو لا تكون إذا ما كانت مطابقة أولا للنظرة الخاصة التي تنظر بها الحضارات المعنية المختلفة الواقع. و في نفس المعنى يقول Lévy-Bruhl : إن البدائي لا يدرك الأشياء كنحن . إذا كان الأمر كذلك فالواقع إذن من نوع آخر: هل الواقع هو ما أراه أو أتذوقه أو ألمسه ؟ هل الواقع هو ما يعبر عنه التفكير المنطقي و العمليات العقلية الاستدلالية ؟ هل الواقع هو ما نعتقده بعد التفكير ؟ كما قال Pierre Janet : إن الواقع نتيجة اعتقادات تبصرية . هل الواقع هو ما تعبر عنه الإشكالات الخارجية ؟ كما قال Goblot من أكبر المناطقة في فرنسا : ”هذه الظاهرة الحاضرة ولي هي حاضرة و ليست لي” . إذن هل الواقع هو ما هو حاضر أي أن الواقع هو ما تعبر عليه الأحكام الحاضرية بدليل أن الشيء غير الحاضر يمكن أن يكون وهما أو شبحا ؟ ما هو الفرق بين الواقع و الخيال ؟ بين الواقع و المثل؟ بين الواقع و التصورات الذهنية ؟ هل هناك واقع واحد ؟ ما هو الفرق بين واقع الحياة اليومية ؟ أي الواقع المحسوس و واقع العالم أي واقع الشكل و الحركة و الامتداد و كذلك واقع الذرة و مركباتها أو واقع حقل القوى المعبر عليه بالمعادلات الرياضية . ما هو واقع الفنان أو الشاعر ؟ فالكل يعلم أن هذا الواقع بعيد كل البعد عن واقع الحياة اليومية و العملية , كذلك عن واقع العلم . فعالم الفنان عالم كله أناقة و انسجام و جمال في جمال أي عالم خال من السخافة و الخشونة . خلاصة القول ما هو الواقع بالنسبة للميتافزيقا ؟ أو في نظر الفيلسوف الميتافزيقي أو الأنطولوجي ؟

ما هو الواقع بالنسبة لأفلاطون ؟ ”العالم المحسوس و المثل العليا” إذن الواقع هو عالم المثل العليا أو عند Leibniz ” الذرات الروحية Monade ” أو عند كارل ماركس ” المادة و الفكر و العلاقة الاجتماعية” أو عند هيجل الواقع هو : الفكرة المطلقة التيي تتموضع في كل شيء . ” كل شيء واقعي هو عقلي و كل شيء عقلي هو واقعي ” . ما هو الواقع عند رجل الدين ؟ .. التفريق بين واقعين , واقع دنيوي و واقع الآخرة , هذا الأخير يمتاز بواقعية حقيقية لأنه أزلي فالساعة قائمة لا ريب فيها عند رجل الدين . هذه التساؤلات تقرر أن الواقع هو دائما (منظومة مبنية) قصدا أو ضمنيا شعوريا أو لا شعوريا , معنى ذلك أنه ليست هناك علاقة بين الواقع المطلق و الذات العارفة أي أن الواقع ليس معطى فطري بل هو شيء مبني .

ما هي ذات الواقع ؟ أو ما هو كنه الواقع ؟ فالكل يقوم من مقارنة و من مقابلة بين الواقع من جهة و التفكير من جهة أخرى أو بين الشيء و الفكرة , لكن هل هذه المقابلة صحيحة ؟ هل هذا التعارض صحيح هل الواقع هو التفكير ؟ يقول المثاليون أن الواقع شيء خارج عن نطاق الفكر أي أن الأشياء مستقلة تماما عن ”الذات العارفة” كما قال الواقعيون . الواقع هي العلاقة الموجودة حتميا بين الذات العارفة و الشيء الواقعي , هذه المشاكل تدخل في إطار العلاقة و هذا الإشكال بدوره يتحكم في الاتجاهات الرئيسية للفلسفة .

نــــيــــلــــي شـيـركـوفــســكـــي

ولد الشاعر و الكاتب الأمريكي نيلي شيركوفسكي عام 1945 بمدينة سانتا مونيكا بكاليفورنيا و ترعرع بمدينة سان برناردينو قبل أن ينتقل الى مدينة سان فرانسيسكو سنة 1975 .خلال السبعينات عمل شيركوفسكي مستشارا سياسيا في منطقة ريفرسايد التي انتقل منها الى سان فرانسيسكو ليتولى منصب موظف في ادارة السناتور جورج موسكون. و في مدينة سان فرانسيسكو سيلتحق شيركوفسكي بالحركة الثقافية البوهيمية التي أحدثها شعراء ما بعد “البيت” خاصة بمنطقة نورث بيتش.

ألف شيركوفسكي العديد من الكتب منها السير الذاتية لكل من لورانس فيرلينغيتي وبوب كوفمان وتشارلز بوكوفسكي الذي التقى به أول مرة وعمره لا يتجاوز الخامسة عشر حين أخبر صديق مشترك بوكوفسكي بمدى اعجاب شيركوفسكي بعمله مما دفعه لزيارته . وشكل اللقاء الأول مناسبة سانحة قدم فيها شيركوفسكي مجموعة من قصائده ليطلع عليها بوكوفسكي. هذا بالاضافة الى اشراف شيركوفسكي على انتاج أول مهرجان للشعر بسان فرانسيسكو و ساعد على تأسيس تظاهرة شهر فنون المقهى وهو نشاط سنوي يحتفل بالثقافة في الفضاء العام بسان فرانسيسكو.

ومن أهم مؤلفات شيركوفسكي النقدية نجد كتابه المعنون ب”أبناء ويتمان الثائرين”(1988)، و هو عبارة عن مجموعة من المقالات تتناول بالتحليل اثني عشر شاعرا من أصدقائه : مايكل مكلور، جون وينرز، جيمس بروتون، فيليب لمانتيا، بوب كوفمان، ألن غينسبرغ، وليام ايفرسون، غريغوري كورسو، هارولد نورس، جاك ميشلين، لورنس فيرلينغيتي و شارلزبوكوفسكي . و يجمع هذا الكتاب بين أنواع أدبية عديدة منها السيرة الذاتية والقصص الشخصية و النقد الأدبي.

هذا وقد تقلد شيركوفسكي منصب كاتب في إقامة بكلية نيوكاليج بكاليفورنيا في سان فرانسيسكو حيث درس الأدب والفلسفة هناك الى حدود عام 2008. و من أشهر مؤلفاته الشعرية نذكر “دليل حب”، “لا تتحرك” ،”تسمية اللامسمى” “حيوان” ، ” مرثية لبوب كوفمان” و”اتكاء على الزمن” التي توجت بجائزة “بين” أوكلاند السنوية / و جائزة جوزفين مايلز الأدبية عام 2005.

يقول الناقد جيرالد نيقوسيا عن شعر شيركوفسكي: ” أن ما يميز شعر شيركوفسكي في النهاية و يجعله فريدا من نوعه هو غنائيته التي لاحدود لها، و هي موهبة غنائية سهلة و أعظم من أي شاعر آخر ينتمي لجيله”.

nullchekoooooooooo

قصيدة سجن
نيلي شيركوفسكي
ترجمة الحبيب الواعي

أمنحني قوة الرئيس لنكولن ومارتن لوثر كينغ
صوتين غنيا، نسرين ارتفعا
أبكي العيون الأمريكية
أصرخ من أجل الشعر العراقي
من أجل الفخر العراقي،
من أجل رغبة الشعب العراقي
في حياته، في تاريخه العميق
“عيون بسيطة” ترى كل شيء
أين ذهبت بلادنا أمريكا ؟
من البريء على أية حال؟
أريد أن أغطي الرئيس ببوذا
وأحرر حراس السجن
من حياتهم الفارغة و الغاضبة
وأزودهم باللغة
لأنهم جلبوا لنا
منظرا طبيعيا مخيفا
Neeli Cherkovski

من وصايا الشاعر لـــورنـــس فـــيـرلـيـنـغـيـتـــي

“If you’re too open-minded; your brains will fall out.”
Lawrence Ferlinghetti

yy

اقترن اسم لورنس فيلينغيتي بمكتبته الشهيرة سيتي لايتس بوكس في سان فرانسيسكو و التي تأسست سنة 1953 لتصبح أول مكتبة و دار نشر تتخصص في نشر الكتب الممنوعة ، بل أصبحت مركز ثقافيا كبيرا اقترن اسمه بجيل البيث، الجيل الذي غير مسار الشعر الأمريكي من الرومانسية و التجريدية، و جعله يتجه بشكل أقوى نحو البوهيمية كشكل من أشكال الرفض الواضح لسياسة القهر و السيطرة.

من وصايا فيرلينغيتي في كتابه الشعر: فن ثائر، و هو عبارة عن مجموعة من الملاحظات و الحكم و المواعظ حول الشعر و الغرض منه.

ما الحاجة إِلى شعراء في عصر كهذا؟
وفيم يجدي الشعر ؟
المطبعة جعلت الشِعر صامتا، إِذ افتقد فيها غناءه. فاجعله أنت يغني من جديد!
لماذا تعيش في الظِل؟ خذ مكانك على مركبة الشمس.
لا تدع أحدا يقل لك إِن الشعر لا قيمة له.
لا تدع أحدا يقل لك إن الشِعر للطير.
اضحك باستخفاف عندما تسمع من يقول إن الشعراء هامشيون، إرهابيون مفترضون يشكلون خطرا على بلادهم.
لا تدع أحدا يقل لك إِن الشعر فصام لا يشفى منه البعض أبدا.
لا تصدق بالأخص أن الشعر لا يصلح لأي شيء في العصور المظلمة.
لا تدع أحدا يقل لك إن الشعراء عناصر تشويش.
اضحك حد الاستهزاء مِنْ أولئك الذين يقولون لك إِن الضمان الاجتِماعي يموِل الشعر.
لا تصدقهم عندما يقولون لك إن الحركة الشعرية لا تساوي شيئا في سوق بورصة ثقافتنا، ثقافةِ الكازينو.
اهزأ بأولئك الذين يقولون لك إنك تعيش في أحلامك. احلم بواقعك. امض وعسكر على حافات الواقِع.
اخرج من خزانتك. إن الجو معتم في داخلها.
لا تدمر العالم إذا لم يكن لَديك شيء أفضل تبادله.
حِين ينزِل الشاعر سرواله، على “شيئه” الشعري أن يكون بديهِيا وأن يظهِر حالات انتصاب غنائية.
الطبقة الحاكمة تعلن عن الحرب، والطبقة الشعبية تذهب لتحارب. إن الحكومات تكذب. صوت الحكومات ليس هو صوت الشعب.
خذ الكلمة. تحرك. إِن الصمت متواطئ.
تحد الرأسمالية المندسة تحت قناعها الديموقراطي.
تحد الدوغمائياتِ السياسية كلها، وحتى الشعبوية الراديكالية والهوليغانيزم الاشتراكي.
تأملِ الصوفية، خصوصا انتشاءها التانترا حيث الشعر يهدِي مِن اللسان إِلى القلب وصولا إِلى الروح.
بدلا من أن ترغب في الهروب من الواقع، الق بنفسك في لحم العالم.

شيئا فشيئا ستتحول سيتي لايتس إلى أول مكتبة ورقية في الغرب الأمريكي و ستمتد شهرتها الى بقاع العالم بسبب المحاكمة التي تعرض لها فرلينغيتي ابان نشره لقصيدة الن غينسبرغ ‘عواء’، و كانت التهمة هي ‘نشر الفاحشة’.

derby-620x348

لباس داخلي Underwear
قصيدة لورنس فيرلينغيتي
ترجمة الحبيب الواعي

لم أنم ليلة البارحة بما فيه الكفاية
قضيت الليلة أفكر في اللباس الداخلي
هل توقفت يوما كي تفكر
في اللباس الداخلي على مستوى التجريد؟
عندما تعمق التفكير فيه
تبرز مشاكل عويصة
اللباس الداخلي شيء
يجب أن نتناوله بالنقاش
كل شخص
يلبس نوعا من اللباس الداخلي
!البابا يلبس لباسا داخليا، أتمنى ذلك
حاكم لويزيانا يلبس
لباس داخليا
رأيته في التلفاز
ربما كان يلبس لباسا داخليا ضيقا
كان يتلوى كثيرا
حقا اللباس الداخلي يمكن أن يورط صاحبه في مأزق
ترى إعلانات اللباس الداخلي
للنساء و الرجال
متشابهة جدا لكنها مختلفة إلى حد كبير
اللباس الداخلي للنساء يمسك الأشياء إلى الأعلى
اللباس الداخلي للرجال يمسك الأشياء إلى الأسفل
اللباس الداخلي شي واحد
يشترك فيه الرجال و النساء
اللباس الداخلي هو الشيء الوحيد بيننا
رأيت تلك الصور ذات الألوان الثلاثة
بتفرعاتها المقيدة
كي تعرض مناطق ذات قوة زائدة
و امتدادات في ثلاث اتجاهات
تعِد بحرية التحرك
لا تنخدع
الأمر كله مبني على نظام مكون من حزبين
و الذي لا يسمح بما يكفي من حرية الاختيار
لأن الأشياء تسير وفق ذاك النظام
أمريكا في لباسها الداخلي
تصارع من خلال الليل
اللباس الداخلي يسيطر على كل شيء في النهاية
خذ مثلا المشدات
إنها حقا أشكال فاشية
لحكومات سرية
تجعل الناس يصدقون كل شيء
سوى الحقيقة
يخبرونك بما يمكن أن تفعله وما لا يمكن أن تفعله
هل حاولت يوما أن تنسل من الحزام
ربما حركة سلمية
هي الحل
هل كان غاندي يلبس حزاما؟
هل كانت السيدة ماكبيث تلبس حزاما؟
ألذاك السبب أزهق ماكبيث روح النوم؟
وتلك البقعة التي كانت دائما تفركها السيدة ماكبيث
هل كانت فعلا في لباسها الداخلي
يبدو أن السيدات الانجلوساكسونيات المعاصرات
لديهن شعور زائد بعقدة الذنب
تراهن دائما يغسلن
إرحلي أيتها البقعة اللعينة!
لباس داخلي ذو بقع يثير الشكوك
لباس داخلي ذو انتفاخ يفضح
لباس داخلي فوق حبل الغسيل علم الحرية العظيم
شخص ما فر من لباسه الداخلي
ربما هو عريان في مكان ما
النجدة!
ولكن لا تقلق
ما يزال الكل معلقا في اللباس الداخلي
لن تكون هناك ثورة حقيقية
و الشعر ما يزال اللباس الداخلي للروح
و اللباس الداخلي ما يزال يحجب
الكثير من العيوب
بالمعنى الجيولوجي
أحجار رسوبية غريبة و شقوق مبهمة
لو كنت أنت فسأدخر
زوجين من اللباس الداخلي الشتوي من الحجم الزائد
لا تخرج عريانا في ذاك الليل الجميل
خاصة في هذه الأثناء
حافظ على هدوئك و دفئك و جفافك
لا فائدة من أن نستفز أنفسنا قبل الأوان
لا داعي لذلك
تقدم إلى الإمام بكرامة
ويدك في صدريتك
لا تكن انفعاليا
الموت لن يسيطر علينا
أمامنا ما يكفي من الوقت عزيزي
ألسنا شبابا و ميسورين؟
لا تصرخ !

اختتام صالون سانتا كروز الأدبي في نسخته الرابعة

image

بعد الانفتاح على القصة القصيرة عبر الاحتفاء بتجربة القاصة المتألقة لطيفة باقا، يعود صالون سانتاكروز لينوع أسئلة الهامش، من خلال الاحتفاء بالسؤال الشعري الأمازيغي، كسؤال هوياتي آتٍ من عمق الذات المغربية وذاكرتها.
لا يمكن الحديث عن هوية الجنوب بعيداً عن حفدة ماسينيسا، ولا يمكن الحفر في الأركيولوجية الشعرية المغربية بمنأى عن العمق الشعري الأمازيغي. من هذا المنطلق إنطلقت سانتاكروز في استضافتها القصيدة الأمازيغية الحديثة التي لا تبتعد عن شعرية محمد واكرار وأسئلته وهواجسه. هذه الأيقونة الشعرية التي تغرف وجودها الشعري من هامشٍ لا تضنيه العتمة بل يُدشن عوالمه الشعرية من العابر، من اللامفكر فيه، من بلاغة الآن. محمد واكرار عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو النقابة المغربية للمسرح. صاحب دواوين لها موقعها في الخريطة الشعرية الحداثية الأمازيغية :
(tinitin 2004/ Tinu 2010 / Afnuz ns gt iman d tanga 2013). رسخ من خلالها استثائيته الشعرية. هذه الأركانة الشعرية شارك في ترجمة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان إلى الأمازيغية، وترجم أعمال مسرحية تاريخية إلى اللسان الأمازيغي كمسرحية: في انتظار غودو لصامويل بيكيت، 1989؛ ومسرحية أيام العز ليوسف فاضل، 2001.
افتتحت أجواء صالون سانتاكروز المنظم في معرض اللوحات لو سُو سُول (le sou sol) مساء يوم السبت 11 أبريل. بلحظة إنسانية ترحماً على أرواح فاجعة طانطان. ثم عرضُ فيديو يحمل شهادات الأصدقاء المقربين من محمد واكرار و الطلبة والأساتذة الذين اشتغلوا على منجزه الشعري من قبيل الأستاذ و المخرج المسرحي عبد القادر أعبابو و الأستاذ المترجم وصديق الشاعر حسن أوملود ولحسن الناشف و الأستاذ محند كديرة و الأستاذ محمد تايشينت و الأستاذ المترجم مبارك المغفور و أستاذة الموسيقى والشاعرة أمينة إقيس والأستاذ القاص أحمد بوزيد و المترجم مصطفى أخولو. فيديو من تصميم أعضاء صالون سانتاكروز. ثم عُرضت وصلة موسيقية من أداء المطربة تينوا توفتري وفرقة الأستاذ والمبدع حميد المسوكي. شهادات حاولت مقاربة قوة القصيدة الواكرارية. هذا الشاعر الذي اقترب بذكاء من مرجعيات متعددة من فلسفة وأنثروبولوجيا و حساسيات نقدية عالمية وأيقونات شعرية خالدة وديانات شرقية وتجارب صوفية … جعلت قصيدته مشحونة برؤية حداثية متميزة.
بعد دردشة حميمية مع الشاعر محمد واكرار التي سيرها الأستاذ أحمد بوزيد، والاستماع لقصائده المغناة من طرف كبار الأغنية الأمازيغية كعلي شوهاد و المرحوم عموري مبارك. انتقلت أجواء الصالون إلى لحظات الشعر مع شعراء أتونا من فاس و البيضاء و اليوسفية وايطاليا. قراءات شعرية فجرت الدهشة و خلقت انزياحات جمالية استثنائية مع الشاعر العميق محمد عُريج و الأمازيغية المتألقة سناء زهيد و الفائز مؤخرا بجائزة اتحاد كتاب المغرب صنف الشعر عمر الأزمي و الشاعرة و الموسيقية أمينة إقيس و الرائع زكرياء زاير و الجنوبي المتميز هشام لخضير و البهي خالد البيهي و الزجالة والقاصة إلهام زنيد و ذات الحضور الجذاب خديجة مفيد والمترجم الصديق مصطفى حومير و الجميل بلغة مولير أسمر محسن.
القراءات جسدت روعة الاختلاف اللغوي.جمعت لغة مولير و لغة ماسينيسا و لغة درويش ولغة آرنست هامنغواي إلى لحظة سانتاكروزية جذابة وأنيقة بروعة الحضور. الحضور الوازن الذي تفاعل بشكل جد حميمي و تاريخي مع المُطربة لمياء التي أدت أغنية خالدة لفيروز ــ سألوني الناس ـــ لمياء الصوت الإستعاري الرائع لأول مرة تغني أمام الحضور، وتحقق حلمها مع صالون ساناكروز.
وفاجأ أعضاء الصالون الصديق و الشاعر حكم حمدان بإحتفاء له تقديرا لمجهوداته العظيمة في النهوض بالفعل الإبداعي الجنوبي. وعربونا عن محبة و إحترام لهذا الشاعر الذي أصدر ديوانه الثاني ـــ نواتات عاشقة ـــ الذي وُقع في فعاليات الصالون. وتفاعلا مع لحظة شكر الشاعر حمدان أدى الأستاذ الموسيقي حميد المسوكي قصيدة لحمدان من تلحينه :
(على حدِّ عِلمي، رُؤانا بعيده
سَبَتْكِ الحياةُ، سَبَتْني القصيده
وبيني ، وبينكِ ألفُ اختلافٍ
يُهدِّدُ قصةَ حبٍّ جديده
وَتَهمسُ لي :ضيَّعَتْكَ القوافي ،
و أهمسُ : بل ، أصبحتْ لي عقيده)
وقدم أعضاء الصالون للشاعر حكم حمدان كاريكاتور من إبداع المبدع توفيق الوطني، عربون حبّ و إحترام وتقدير.
وفي الأخير تشرف أعضاء الصالون بإهداء الشاعر المُحتفى به محمد واكرار هدية تحمل إسمه و إسم الصالون الأدبي سانتاكروز.

حوار مع القاصة لطيفة باقا (الجزء الأول)

لا أحد يطيق حزن العالم سوى الكتّاب، إنهم يحاولون على الدوام تشييد نقيضه ليغدو جميلاً، يلتقط كل التفاصيل و ينشغلون بأمر شخوصهم محتفظين بدهشة الأطفال، الدهشة ذاتها التي اتسم بها لقاؤنا في احدى المقاهي المطلة على الأطلنتي، في مدينة أكادير المنبعثة بالكاد من رماد الزلزال كطائر فينيقي. كاتبة غرفة فيرجينيا ووالف، وما الذي نفعله ؟ بدا المكان أليفاً بالنسبة إليها. كاتبة غير منشغلة بالعابر، مثل جراح قديم يمد يديه للعميق والبعيد التاوي. لم تكن تريد أن تبني رجل ثلج أو قصراً من الطين. اقتربنا منها لتحكي عن عوالمها وهي ترمم ذاتها بحثا عن هوية خاصة، هي الآتية من سلالة زفزاف و بورخيس في مغرب لا يعترف بالكتابة. وتنتصر للهامش كأفق إنساني آخـر.

1. سنبدأ بالسؤال البَدئي و النمطي الذي يُطرح عادةً على الكُتاب : ما حكايتك مع الكتابة ؟ هل هي مدخل للحياة ؟

لطيفة : كانت البداية صدفة حقيقة، في البداية كانت علاقتي بالتعبير الفني تتخذ شكل الرسم، التشكيل أقصد. أتذكر اليوم لقطات من مسلسل يحكي عن طه حسين، أتذكره وهو يكتب يومياته. في تلك اللحظة بالذات من الطفولة، اكتشفت الكتابة كاحتمال آخر للتعبير. بمخيلة طفلة أدركت أن الإنسان من الممكن أن يعبر عما يخالجه بواسطة كتابة اليوميات، منذ تلك الطفولة دونت يومياتي في مذكرة سوداء غلافها أسود وجلدي: ما يقع في القسم مع الأصدقاء، ما يقع في بيت العائلة … كنتُ أحكي كل شيء حدّ الفضح أحياناً.مراهقة في الخامسة عشر تكشف الأسرار. بعدها أخذت الكتابة مسارات جديدة أكثر جدية، راكمتُ قراءات عديدة ومتنوعة. وحدها القراءة تخلق القارئ والشاعر، وتخلق الكاتب. الكتابة من فراغ وهمٌ لا غير. أتذكر أيضاً مدرس اللغة الفرنسية وهو يطلب منا كتابة حكاية، كان يغشاه كسلٌ ما في ذلك المساء البعيد وكان يود أن يرمم بنا زمن الحصة، كي تنتهي سريعاً كطفولتنا. ( تَضحك ) كتبت أول نص لي ووضعنه أمامه، عندما دق الجرس طلب مني البقاء في مكاني بالمقعد الخشبي. خائفةً من المُدرس، كنتُ أبني الافتراضات : ربما سيحاسبني على أخطاء صغيرة، لكني سأسمع منه ولأول مرة عبارة القصة القصيرة تعريفا لما كتبت. كانت تلك هي الشرارة الأولى.
الكتابة تصريف للتوتر ، بالنسبة لي هي ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. يحضرني الآن ما يقوله الزجال أحمد المسيح ( لو لم أكن شاعراً لكنتُ مجرماً ) فعلاً، إن الكتابة أنقذت الإنسانية من الكثير من المجرمين. بعدها صرتُ كاتبة قصة قصيرة، نشرتُ في الملاحق الثقافية. ثُم كانت الانطلاقة الفعلية مع جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب سنة 1992.
في الحقيقة الحكي عن الماضي يقتضي التركيز على هذه التفصيل.

2. وقوفاُ عند العتبات الأولية، يستوقفنا العنوان ذو الامتلاء الدلالي طبعاً، فنتساءل: لماذا فيرجينيا ووالف بالضبط ؟ ولماذا الغرفة ؟
لطيفة : الجميع يعرف أن فيرجينيا ووالف كتبت نصاً عن الغرفة الخاصة، تقول إن المرأة إن أرادت أن تكتب رواية ينبغي أن تتوفر على غرفة خاصة وقليل من المال، أي حيازة الاستقلال المادي و المعنوي. التقاطع بين كاتبة أدركت أهمية الاستقلالية في فضاء ثقافي مغاير وكاتبة في فضاء مختلف، يعني استمرارية الحاجة إلى الاستقلالية على اعتبار أن الكتابة بالنسبة للمرأة تجربة مختلفة. فالمجتمع غير مهيئ للاعتراف بالمرأة ككاتبة. هو غير مهيئ لاستقبال المرأة خارج الدور البيولوجي المخول لها ثقافيا داخل المجتمعات الذكورية. مغامرةٌ حقيقية هي إذن كتابة المرأة. إن لم نقل مخاطرة في غياب الشروط داخل مجتمع لا يعترف بحقوق النساء ولا بالمساواة، مجتمع يذوب المرأة داخل نسيجه الثقافي. ففي مؤسسة الأسرة مثلاً لا تتوفر المرأة على فضاء خاص بها، لذلك أحيي فيرجينا ووالف على تلك الإشارة التي انتبهت إليها وأغفلتها الحركة النسائية، هذه الاخيرة التي لم تفكر كثيرا فيما يبدو بانشغالات المرأة المبدعة.
أنا القادمة من الحركة النسائية أسوق مطلب الغرفة الخاصة كمطلب أساسي وحيوي من خلال هذا الكتاب و إن كان ذلك بشكل غير مباشر. المجموعة إذن هي احتفاء بتلك الإشارة واستعادة لتلك الغرفة.
3. يقودنا الحديث مباشرة إلى الحديث عن شعرية المكان عند لطيفة. كيف هي إذن علاقتك مع الأمكنة ؟
لطيفة : أنا مواطنة من هذا العالم، الهويات تخلق الانكماش والتمحور حول الذات، تضخمها لتنفي الآخر. الارتباط بالمكان لا ينبغي أن يكون ارتباطا عاطفياً يحول دون الانفتاح على الآخر. من الأمكنة التي عبرتها أجد سلا محطة من محطات السفر، وأجد أيضاً أكادير التي أحيا فيها، سلا هي المدينة التي صنعت هذا المسار الذي أعيشه.
خارج إطار ما تعنيه الأمكنة من التاريخ والوجدان والعلاقات الإنسانية، أحاول أن تكون علاقتي بالأمكنة بمنأى عن البُعد الهوياتي الذي ويخلق اليوم التطرف والكراهية.
4. كيف تم توظيف الغرفة جمالياً ؟ وماذا تعني لك الغرفة : الامتلاء والحضور والانتماء إلى الهُنا ؟ أم الوحدة والعزلة الباردة ؟
لطيفة : طبعاً، فيرجينا ووالف تخرج من الغرفة تملأ جيوبها بالحجارة لتذهب إلى النهر وتغرق. أ هذا ما تقصده ؟
5. ( مقاطعاً ) حضور الغرفة في المجموعة القصصية له مجموعة من الدلالات، أحياناً الغرف تشعرنا بالإنتماء إلى الهُنا، إلى الحاضر. إننا نشبه اللحظة، وخارجها نُحس بالإغتراب. الغرفة إذن هي علامة نفسية تقبل التأويلات.
لطيفة : الغرفة هي الذات، ليس الذات فقط بمعنى الجسد و النفس والتاريخ الشخصي، بل أيضا بمعنى الخارج الذي يذوب ويُختزل فينا. الغرفة هي ذاتي عندما أجلس لأكتب. هو التصور ذاته الذي تقول به فيرجينا ووالف.
الغرفة هي المكان الذي نستطيع أن ننتج داخله الرواية وأنا أوسع الأفق لأقول : الغرفة هي المكان الحميمي الذي نبدع فيه الأدب.
6. ( مقاطعاً ): حين ننخرط في العالم ننخرط بهوياتنا لتقديم إضافة جمالية لهذا العالم إنطلاقا من خصوصية الموقع.
لطيفة : طبعاً، ننتج رؤية للعالم حين نلج الغرفة ونكتب أدباً. هو نتاج تراكم يقول درويش : ( نخرج إلى العالم، نشحن بالعالم ونعود لذواتنا لنكتب ) هناك لحظات، حتمياً يجب أن نعود إلى الذات ليُخلق الأدب. بهذا المعنى امتلأت غرفتي في المجموعة.
7. قُراءً، نلاحظ بلاغة الأمكنة في قصصك، فنُحس أحياناً بالانتماء وأحياناً بالنشاز والغربة المكانية. هل صحيح أن الأمكنة قوالب فيزيائية جاهزة تملئينها بدفقاتك الشعورية ؟ أم تمارس عليك سطوة استقلاليتها الشعورية ؟
لطيفة : طبعا للأمكنة سلطتها، ولها دورها الكبير في توجيه الشعور والكتابة. إذا كتبت داخل مكان معبئ بالذكريات والتاريخ الشخصي، فما سأنتجه لن يشبه ما سأنتجه في أمكنة لا علاقة وجدانية لي بها. بالموازاة مع ذلك للأزمنة أيضاً سلطتها ولا نستطيع الكتابة خارج شرطي الزمن والمكان.
وعلى ذكر العتبات فالمجموعة فيها عتبات عبارة عن مقولات لفيرجينيا ووالف.
8. ( مقاطعاً ): هي إلتفاتة واعية إذن واختيار جمالي في الآن ذاته.
لطيفة : أجل لا بد أن أوضح وأنا أكشف عما جرى في مطبخ الكتابة، أني كتبت النصوص دون أن أعلم أن العنوان سيكون “غرفة فيجرينا ووالف”. وكما يحدث في الحياة كنتُ أقرأ ليلاً نصوصا لفيرجينيا وولف لم أطلع عليها من قبل، فاكتشفت تقاطعات عجيبة بين نصوصي ونصوصها تماما مثلما يقع حين تجد حكاية في الثقافة الأمازيغية و تجد الحكاية ذاتها في الثقافة العربية والثقافة الأميركية. تتكرر الحكاية في ثقافات مختلفة، نفس الأمر يمكن أن يقع على مستوى الأدب أيضا. بكلمة واحدة عنوان مجموعتي “غرفة فرجينيا وولف” عثرت عليه ذات عتمة.
9. الأمكنة لديك معطيات ثقافية وأسئلة أنطولوجية. الشرفة أو النافذة مثلاً تم توظيفها بشكل شاعري وفلسفي. النافذة فضاء للهروب و التحرر من قبضة الزمن ومحدودية المكان والحضور. صحيح ؟
لطيفة : فعلاً، فالعمة مثلا تهرب من زوجها عبر النافذة في نص من النصوص، وفي نص أخر نصادف شخصا مخمورا يبول على العالم من الشرفة، وفي مكان آخر من المجموعة “لا أحد لديه الشجاعة ليلقي بنفسه من النافذة”، موضوعة النافذة موضوعة ومادة اشتغل عليها الكاتب والتشكيلي، والموسيقي على السواء. يقول جاك بريل:
“je préfère penser. Qu’une fenêtre fermée. Ça ne sert qu’à aider. Les amants à s’aimer ”
العشاق حين يحبون بعضهم يغلقون النافذة، إذ تحميهم من عين الآخر، فالنافذة تمرد على الأخلاق وانفتاح على العالم.
10. ( مقاطعاً ): أتتذكر ما تقوله سكينة حبيب الله : ( بماذا تحلم البيوت حين تغمض النوافذ ؟ ) أحس أن النافذة تحصين للذات، هل يمكن أن ننفتح على الآخر دون أن نقي ذواتنا بهوية ؟
لطيفة : أحتاط من الهوية، إنها أحيانا تولد الكراهية، إن كان لابد من هوية فلتكن الهوية الانسانية.
11. ألا يعني هذا ذوبان الذات ؟
لطيفة : لا ليس بالضرورة. صحيح، يجب أن تحتفظ كل ثقافة باختلافها لكن لا يجب أن يكون الأمر إذن بالمقارنة التي تفضي إلى اعتبار الذات خيرا والآخر شرا أو جحيماً بتعبير سارتر. هذا مثلا ما آلت إليه الحركات المتطرفة، وأنا مشغولة بهذه القضايا. هذا سيجعلني مثلاً أنتمي لحركة ضمير ببلدي. إنها القناعة بضرورة التكتل لحماية الحريات الفردية، من الفكر الشمولي الذي يلغي الاخر، يجب أن نتعايش في هذا العالم فثمة مشترك لكن ثمة أيضا اختلاف.
12. بالحديث عن الهروب عند باقا، هل صحيح أنها فكرة احتجاجية ؟
لطيفة : من يكتب يجب أن يكون متمرداً، لا أفهم من يكتب ويهادن. ( تضحك ) يقول شكسبير هذا العالم سيستهلك نفسه حتى العدم، العالم لا يعجبني ، هل يعجبك أنت ؟
( مُجيب ) كما يقول صديقي أحمد بوزيد في نص قصصي : العالم يحتاج للميزاجور كي يعجبني.
13. يقول سيوران : ( أستطيع أن أرى العالم من نافذة قريتي،وذلك بحجم ما العالم لا بحجم ما أرى )، ماذا ترى لطيفة حين تُطل من النافذة ؟
لطيفة : أرى المقهى قبالة البيت، أرى الأشياء، أرى الناس (تتذكر) في الخامسة والنصف مساءا أرى امرأة تمر أسفل نافذتي ، ترتدي شالا أبيض وقبعة تدفع عربة بتؤدة عربة الحساء، في الساعة السابعة و النصف أراها تعود أدراجها تدفع نفس العربة اليدوية. يشغلني صمت هذه المرأة، كتبت عنها. أتخيل ما تفكر فيه، أتساءل: بماذا تحس في رحلة الذهاب و في رحلة العودة؟
إن النافذة تمنحك فعلاً عوالم للرؤية.
14. مشاكلة الموت وجدليتها مع الحياة تُذكرني بمقولة للراحل زفزاف وهو يصف مليكة مستظرف “أنت تحملين موتكِ معكِ” هل تحمل لطيفة الموت في كتاباتها ؟ هل تؤمنين أن الموت هو المدخل الوحيد للظفر بقيمة وعمق الحياة ؟
لا، أنا مع الحياة، مع الضحك.
15. الكتابة، أليست محاولة لتجريب الموت إذن ؟
لطيفة : هي محاولة للعيش، الكتابة تدعك تستمر، تتحمل بفضلها العالم، تضفي المعنى على الوجود.
16. احدى شخوصك عاهرة،وتقدمينها للقارئ كنموذج ممتلئ بالإنسانية. هل هذا تواطؤ ضد الرقابة والقراءة الثقافية للقارئ ؟ أم محاولة لخلخلة البنى السيكولوجية والثقافية للقارئ ؟
لطيفة : عموماً العاهرة، إنسان مفعم بالإنسانية، أعرف عددا من العاهرات، أجالسهن وأجدهن أكثر إنسانية من النساء اللواتي لهن امتيازات أو يتموقعن في مؤسسات.أوظف العاهرة في نصوصي باعتبارها فضيحة للمجتمع.
سوسيولوجياً هي متنفس مهم جداً لتحقيق السلم الاجتماعي والتوازن. لأن المنظومة الذكورية التي ننتمي إليها للأسف، تعاني من عقدة الجنس، لا يسمحون بعلاقة جنسية خارج المؤسسات، ولأني أكتب عن الهامش، أكتب عن العاهرة. شخوص الحواشي الاجتماعية و الثقافية تثيرني، تثيرني الكائنات الحقيقية، أكثر من الكائنات التي تتصنع وتفتعل أدوراً سرعان ما تتقمصها.