حوار مع القاصة لطيفة باقا (الجزء الأول)

لا أحد يطيق حزن العالم سوى الكتّاب، إنهم يحاولون على الدوام تشييد نقيضه ليغدو جميلاً، يلتقط كل التفاصيل و ينشغلون بأمر شخوصهم محتفظين بدهشة الأطفال، الدهشة ذاتها التي اتسم بها لقاؤنا في احدى المقاهي المطلة على الأطلنتي، في مدينة أكادير المنبعثة بالكاد من رماد الزلزال كطائر فينيقي. كاتبة غرفة فيرجينيا ووالف، وما الذي نفعله ؟ بدا المكان أليفاً بالنسبة إليها. كاتبة غير منشغلة بالعابر، مثل جراح قديم يمد يديه للعميق والبعيد التاوي. لم تكن تريد أن تبني رجل ثلج أو قصراً من الطين. اقتربنا منها لتحكي عن عوالمها وهي ترمم ذاتها بحثا عن هوية خاصة، هي الآتية من سلالة زفزاف و بورخيس في مغرب لا يعترف بالكتابة. وتنتصر للهامش كأفق إنساني آخـر.

1. سنبدأ بالسؤال البَدئي و النمطي الذي يُطرح عادةً على الكُتاب : ما حكايتك مع الكتابة ؟ هل هي مدخل للحياة ؟

لطيفة : كانت البداية صدفة حقيقة، في البداية كانت علاقتي بالتعبير الفني تتخذ شكل الرسم، التشكيل أقصد. أتذكر اليوم لقطات من مسلسل يحكي عن طه حسين، أتذكره وهو يكتب يومياته. في تلك اللحظة بالذات من الطفولة، اكتشفت الكتابة كاحتمال آخر للتعبير. بمخيلة طفلة أدركت أن الإنسان من الممكن أن يعبر عما يخالجه بواسطة كتابة اليوميات، منذ تلك الطفولة دونت يومياتي في مذكرة سوداء غلافها أسود وجلدي: ما يقع في القسم مع الأصدقاء، ما يقع في بيت العائلة … كنتُ أحكي كل شيء حدّ الفضح أحياناً.مراهقة في الخامسة عشر تكشف الأسرار. بعدها أخذت الكتابة مسارات جديدة أكثر جدية، راكمتُ قراءات عديدة ومتنوعة. وحدها القراءة تخلق القارئ والشاعر، وتخلق الكاتب. الكتابة من فراغ وهمٌ لا غير. أتذكر أيضاً مدرس اللغة الفرنسية وهو يطلب منا كتابة حكاية، كان يغشاه كسلٌ ما في ذلك المساء البعيد وكان يود أن يرمم بنا زمن الحصة، كي تنتهي سريعاً كطفولتنا. ( تَضحك ) كتبت أول نص لي ووضعنه أمامه، عندما دق الجرس طلب مني البقاء في مكاني بالمقعد الخشبي. خائفةً من المُدرس، كنتُ أبني الافتراضات : ربما سيحاسبني على أخطاء صغيرة، لكني سأسمع منه ولأول مرة عبارة القصة القصيرة تعريفا لما كتبت. كانت تلك هي الشرارة الأولى.
الكتابة تصريف للتوتر ، بالنسبة لي هي ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. يحضرني الآن ما يقوله الزجال أحمد المسيح ( لو لم أكن شاعراً لكنتُ مجرماً ) فعلاً، إن الكتابة أنقذت الإنسانية من الكثير من المجرمين. بعدها صرتُ كاتبة قصة قصيرة، نشرتُ في الملاحق الثقافية. ثُم كانت الانطلاقة الفعلية مع جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب سنة 1992.
في الحقيقة الحكي عن الماضي يقتضي التركيز على هذه التفصيل.

2. وقوفاُ عند العتبات الأولية، يستوقفنا العنوان ذو الامتلاء الدلالي طبعاً، فنتساءل: لماذا فيرجينيا ووالف بالضبط ؟ ولماذا الغرفة ؟
لطيفة : الجميع يعرف أن فيرجينيا ووالف كتبت نصاً عن الغرفة الخاصة، تقول إن المرأة إن أرادت أن تكتب رواية ينبغي أن تتوفر على غرفة خاصة وقليل من المال، أي حيازة الاستقلال المادي و المعنوي. التقاطع بين كاتبة أدركت أهمية الاستقلالية في فضاء ثقافي مغاير وكاتبة في فضاء مختلف، يعني استمرارية الحاجة إلى الاستقلالية على اعتبار أن الكتابة بالنسبة للمرأة تجربة مختلفة. فالمجتمع غير مهيئ للاعتراف بالمرأة ككاتبة. هو غير مهيئ لاستقبال المرأة خارج الدور البيولوجي المخول لها ثقافيا داخل المجتمعات الذكورية. مغامرةٌ حقيقية هي إذن كتابة المرأة. إن لم نقل مخاطرة في غياب الشروط داخل مجتمع لا يعترف بحقوق النساء ولا بالمساواة، مجتمع يذوب المرأة داخل نسيجه الثقافي. ففي مؤسسة الأسرة مثلاً لا تتوفر المرأة على فضاء خاص بها، لذلك أحيي فيرجينا ووالف على تلك الإشارة التي انتبهت إليها وأغفلتها الحركة النسائية، هذه الاخيرة التي لم تفكر كثيرا فيما يبدو بانشغالات المرأة المبدعة.
أنا القادمة من الحركة النسائية أسوق مطلب الغرفة الخاصة كمطلب أساسي وحيوي من خلال هذا الكتاب و إن كان ذلك بشكل غير مباشر. المجموعة إذن هي احتفاء بتلك الإشارة واستعادة لتلك الغرفة.
3. يقودنا الحديث مباشرة إلى الحديث عن شعرية المكان عند لطيفة. كيف هي إذن علاقتك مع الأمكنة ؟
لطيفة : أنا مواطنة من هذا العالم، الهويات تخلق الانكماش والتمحور حول الذات، تضخمها لتنفي الآخر. الارتباط بالمكان لا ينبغي أن يكون ارتباطا عاطفياً يحول دون الانفتاح على الآخر. من الأمكنة التي عبرتها أجد سلا محطة من محطات السفر، وأجد أيضاً أكادير التي أحيا فيها، سلا هي المدينة التي صنعت هذا المسار الذي أعيشه.
خارج إطار ما تعنيه الأمكنة من التاريخ والوجدان والعلاقات الإنسانية، أحاول أن تكون علاقتي بالأمكنة بمنأى عن البُعد الهوياتي الذي ويخلق اليوم التطرف والكراهية.
4. كيف تم توظيف الغرفة جمالياً ؟ وماذا تعني لك الغرفة : الامتلاء والحضور والانتماء إلى الهُنا ؟ أم الوحدة والعزلة الباردة ؟
لطيفة : طبعاً، فيرجينا ووالف تخرج من الغرفة تملأ جيوبها بالحجارة لتذهب إلى النهر وتغرق. أ هذا ما تقصده ؟
5. ( مقاطعاً ) حضور الغرفة في المجموعة القصصية له مجموعة من الدلالات، أحياناً الغرف تشعرنا بالإنتماء إلى الهُنا، إلى الحاضر. إننا نشبه اللحظة، وخارجها نُحس بالإغتراب. الغرفة إذن هي علامة نفسية تقبل التأويلات.
لطيفة : الغرفة هي الذات، ليس الذات فقط بمعنى الجسد و النفس والتاريخ الشخصي، بل أيضا بمعنى الخارج الذي يذوب ويُختزل فينا. الغرفة هي ذاتي عندما أجلس لأكتب. هو التصور ذاته الذي تقول به فيرجينا ووالف.
الغرفة هي المكان الذي نستطيع أن ننتج داخله الرواية وأنا أوسع الأفق لأقول : الغرفة هي المكان الحميمي الذي نبدع فيه الأدب.
6. ( مقاطعاً ): حين ننخرط في العالم ننخرط بهوياتنا لتقديم إضافة جمالية لهذا العالم إنطلاقا من خصوصية الموقع.
لطيفة : طبعاً، ننتج رؤية للعالم حين نلج الغرفة ونكتب أدباً. هو نتاج تراكم يقول درويش : ( نخرج إلى العالم، نشحن بالعالم ونعود لذواتنا لنكتب ) هناك لحظات، حتمياً يجب أن نعود إلى الذات ليُخلق الأدب. بهذا المعنى امتلأت غرفتي في المجموعة.
7. قُراءً، نلاحظ بلاغة الأمكنة في قصصك، فنُحس أحياناً بالانتماء وأحياناً بالنشاز والغربة المكانية. هل صحيح أن الأمكنة قوالب فيزيائية جاهزة تملئينها بدفقاتك الشعورية ؟ أم تمارس عليك سطوة استقلاليتها الشعورية ؟
لطيفة : طبعا للأمكنة سلطتها، ولها دورها الكبير في توجيه الشعور والكتابة. إذا كتبت داخل مكان معبئ بالذكريات والتاريخ الشخصي، فما سأنتجه لن يشبه ما سأنتجه في أمكنة لا علاقة وجدانية لي بها. بالموازاة مع ذلك للأزمنة أيضاً سلطتها ولا نستطيع الكتابة خارج شرطي الزمن والمكان.
وعلى ذكر العتبات فالمجموعة فيها عتبات عبارة عن مقولات لفيرجينيا ووالف.
8. ( مقاطعاً ): هي إلتفاتة واعية إذن واختيار جمالي في الآن ذاته.
لطيفة : أجل لا بد أن أوضح وأنا أكشف عما جرى في مطبخ الكتابة، أني كتبت النصوص دون أن أعلم أن العنوان سيكون “غرفة فيجرينا ووالف”. وكما يحدث في الحياة كنتُ أقرأ ليلاً نصوصا لفيرجينيا وولف لم أطلع عليها من قبل، فاكتشفت تقاطعات عجيبة بين نصوصي ونصوصها تماما مثلما يقع حين تجد حكاية في الثقافة الأمازيغية و تجد الحكاية ذاتها في الثقافة العربية والثقافة الأميركية. تتكرر الحكاية في ثقافات مختلفة، نفس الأمر يمكن أن يقع على مستوى الأدب أيضا. بكلمة واحدة عنوان مجموعتي “غرفة فرجينيا وولف” عثرت عليه ذات عتمة.
9. الأمكنة لديك معطيات ثقافية وأسئلة أنطولوجية. الشرفة أو النافذة مثلاً تم توظيفها بشكل شاعري وفلسفي. النافذة فضاء للهروب و التحرر من قبضة الزمن ومحدودية المكان والحضور. صحيح ؟
لطيفة : فعلاً، فالعمة مثلا تهرب من زوجها عبر النافذة في نص من النصوص، وفي نص أخر نصادف شخصا مخمورا يبول على العالم من الشرفة، وفي مكان آخر من المجموعة “لا أحد لديه الشجاعة ليلقي بنفسه من النافذة”، موضوعة النافذة موضوعة ومادة اشتغل عليها الكاتب والتشكيلي، والموسيقي على السواء. يقول جاك بريل:
“je préfère penser. Qu’une fenêtre fermée. Ça ne sert qu’à aider. Les amants à s’aimer ”
العشاق حين يحبون بعضهم يغلقون النافذة، إذ تحميهم من عين الآخر، فالنافذة تمرد على الأخلاق وانفتاح على العالم.
10. ( مقاطعاً ): أتتذكر ما تقوله سكينة حبيب الله : ( بماذا تحلم البيوت حين تغمض النوافذ ؟ ) أحس أن النافذة تحصين للذات، هل يمكن أن ننفتح على الآخر دون أن نقي ذواتنا بهوية ؟
لطيفة : أحتاط من الهوية، إنها أحيانا تولد الكراهية، إن كان لابد من هوية فلتكن الهوية الانسانية.
11. ألا يعني هذا ذوبان الذات ؟
لطيفة : لا ليس بالضرورة. صحيح، يجب أن تحتفظ كل ثقافة باختلافها لكن لا يجب أن يكون الأمر إذن بالمقارنة التي تفضي إلى اعتبار الذات خيرا والآخر شرا أو جحيماً بتعبير سارتر. هذا مثلا ما آلت إليه الحركات المتطرفة، وأنا مشغولة بهذه القضايا. هذا سيجعلني مثلاً أنتمي لحركة ضمير ببلدي. إنها القناعة بضرورة التكتل لحماية الحريات الفردية، من الفكر الشمولي الذي يلغي الاخر، يجب أن نتعايش في هذا العالم فثمة مشترك لكن ثمة أيضا اختلاف.
12. بالحديث عن الهروب عند باقا، هل صحيح أنها فكرة احتجاجية ؟
لطيفة : من يكتب يجب أن يكون متمرداً، لا أفهم من يكتب ويهادن. ( تضحك ) يقول شكسبير هذا العالم سيستهلك نفسه حتى العدم، العالم لا يعجبني ، هل يعجبك أنت ؟
( مُجيب ) كما يقول صديقي أحمد بوزيد في نص قصصي : العالم يحتاج للميزاجور كي يعجبني.
13. يقول سيوران : ( أستطيع أن أرى العالم من نافذة قريتي،وذلك بحجم ما العالم لا بحجم ما أرى )، ماذا ترى لطيفة حين تُطل من النافذة ؟
لطيفة : أرى المقهى قبالة البيت، أرى الأشياء، أرى الناس (تتذكر) في الخامسة والنصف مساءا أرى امرأة تمر أسفل نافذتي ، ترتدي شالا أبيض وقبعة تدفع عربة بتؤدة عربة الحساء، في الساعة السابعة و النصف أراها تعود أدراجها تدفع نفس العربة اليدوية. يشغلني صمت هذه المرأة، كتبت عنها. أتخيل ما تفكر فيه، أتساءل: بماذا تحس في رحلة الذهاب و في رحلة العودة؟
إن النافذة تمنحك فعلاً عوالم للرؤية.
14. مشاكلة الموت وجدليتها مع الحياة تُذكرني بمقولة للراحل زفزاف وهو يصف مليكة مستظرف “أنت تحملين موتكِ معكِ” هل تحمل لطيفة الموت في كتاباتها ؟ هل تؤمنين أن الموت هو المدخل الوحيد للظفر بقيمة وعمق الحياة ؟
لا، أنا مع الحياة، مع الضحك.
15. الكتابة، أليست محاولة لتجريب الموت إذن ؟
لطيفة : هي محاولة للعيش، الكتابة تدعك تستمر، تتحمل بفضلها العالم، تضفي المعنى على الوجود.
16. احدى شخوصك عاهرة،وتقدمينها للقارئ كنموذج ممتلئ بالإنسانية. هل هذا تواطؤ ضد الرقابة والقراءة الثقافية للقارئ ؟ أم محاولة لخلخلة البنى السيكولوجية والثقافية للقارئ ؟
لطيفة : عموماً العاهرة، إنسان مفعم بالإنسانية، أعرف عددا من العاهرات، أجالسهن وأجدهن أكثر إنسانية من النساء اللواتي لهن امتيازات أو يتموقعن في مؤسسات.أوظف العاهرة في نصوصي باعتبارها فضيحة للمجتمع.
سوسيولوجياً هي متنفس مهم جداً لتحقيق السلم الاجتماعي والتوازن. لأن المنظومة الذكورية التي ننتمي إليها للأسف، تعاني من عقدة الجنس، لا يسمحون بعلاقة جنسية خارج المؤسسات، ولأني أكتب عن الهامش، أكتب عن العاهرة. شخوص الحواشي الاجتماعية و الثقافية تثيرني، تثيرني الكائنات الحقيقية، أكثر من الكائنات التي تتصنع وتفتعل أدوراً سرعان ما تتقمصها.

بلاغ: انسحاب من اتحاد كتاب المغرب

أصبح اتحاد كتاب المغرب كمثل سفينة بدون شراع، وربما أن من يقودونها لا يعرفون أنَّ البحر لا يستقر على حال، وأن الأنواء قد تطوح بهذا الخشب القديم المهترِيء، الذي ما زالوا يعتبرونه صالحا للإبحار.

إيمانا بالدور التاريخي الذي تنهض به مجموعة من مكونات الحركة الثقافية والسياسية التقدمية في المغرب، بحيث كانت دوما في طليعة النضال من أجل محاربة الفساد والاستبداد، وإرساء ثقافة المحاسبة، سواء في الدولة أو المجتمع المدني، ولوضع حدّ لتمييع المشهد الثقافي؛ يرى بعض الكتاب المغاربة أن ما بات عليهم اليوم وضع منظمة ثقافية عتيدة هي “اتحاد كتاب المغرب”، من ارتهان بين يدي قلّة لا تمثل، في السياق الراهن، رأي أغلبيةالمبدعين المغاربة،مما نتج عنه تحويل لدور المنظمة الطبيعي، وعبث برصيدها التاريخي، لأجل تحقيق مكاسب شخصية ضيقة، مع مراكمة الأخطاء التسييرية والطيش، غير المسبوق، في إبداء المواقف الفاقدة للعمق وللصدى والشرعية القاعدية، كما تعتقد أن بقاءها في الاتحاد في وضعه الحالي، يعتبر تزكية منا لهذا الزّوغ، وقبولا منّها له، لهذا أعلنت انسحابها من “اتحاد كتاب المغرب”، في الوقت الراهن، وإلى أن تتوفر شروط إحداث التغيير المطلوب، وهو انسحاب لا يعني بأي حال من الأحوال استقالة من الفعل الثقافي، إنما هو سعي نحو خلق أفق ثقافي وفكري أرحب.

التوقيعات :
عبد الفتاح الحجُمري
شعيب حليفي
شرف الدين ماجدولين
محمود عبد الغني
نورالدين صدوق
صلاح بوسريف
محمد بودويك
محمد بوخزار
خالد بلقاسم
عبد الدين حمروش
مراد القادري
عبد اللطيف البازي
عبد اللطيف محفوظ
إكرام عبدي
شفيق الزكاري