أرشيفات التصنيف: يوميات

لا يقصدني هذا الجسد

كلما حاولت أن تتبؤكَ،َ يسألُكَ بَعيدٌ مَا بكَ : أَيُّ تَعَبٍ أَنَتَ ؟ رُبَما أَنَتَ مُسودَةٌ لله، مُسوَدة مَشْطُوبَةُ الْوُجُود. وُجُودكَ لَيْسَ إلّا تَمْرينَاً لِيُوجَدَ الآخرُ صَحِيحَاً. وإلا لماذا سُؤالكَ الدؤوب :
“مَاذَا أعنِّي ليّ ؟” يجبركَ أن تفكر طَوِيلَاً. أَطوَلَ مِمَّا كَنتَ تَعْتَقِدُ أَنَّه سَيُجْبِرُكَ سُؤَالٌ مَا بالتفكير مُطولاً .. صَحِيح، إِنَّه حَقَا مِنْ بَيْن الأسئلةِ الْقَلِيلَة الَّتِي غَشَّاكَ عَلَى إثرِهَا تَنَاقُضٌ غَامِضٌ بَيْنَ إلحاحكَ فِي إنهَائهِ ورغبتكَ عَلَى استمراره. تَمامَاً كَسُؤَالِكَ ذَاتَ صَدٍّ لَهَا لِمُحَاوَلَاتِكَ الْهَشَّة فِي إهداء نَبْضِ قَلبِها الخَائفِ، إيقاعاً آخر أَكْثَرُ مُوسِيقِيَّةً مِنْ إيقَاعه الْآنْ الرَّتِيبْ. سُؤَالُكَ : مَا الَّذِي يَحْدُثْ ؟
“لَا أَعنْي لِي شِيئَا، غَيْرَ عتمةٍ أَتَّكِئُ عَلَيهَا لِأُشْبِهَ الْكَائِنَاتِ الرِّخْوَة. عَتمةٌ يُسمُونَها جَسَدَاً” الكائنات التي تتورطُ نظراتها في شفقةٍ صفراء تَختصرني بدقة تماماً كما يصنع المَوت كُلما رأتني أشاركهم زمنهم.
تُحاورُ ذاتكَ دائماً كلما ابتسمتْ لكَ كاعتذار لبقٍ لنظراتكَ العاشقة، وتقول في سركَ : “إلهي :أريدُ أن أقفَ على حَافة العَالم و أصرخَ :أحبّهـــا. أشتهي أن أضع أصيص زَهرٍ على شُرفة مُطلقةٍ وأهربْ. أشتهي أن أكتبَ رسالة لِجُندي مَنسي في دار عَجزة بالمدينة القديمة وأهرب، أشتهي أن أضعَ تاج فراشات على صَبية نائمة على الرصيف وأهرب، أشتهي أن أترك خمسة دراهم في جَيب صَديقي الصَغير صبيحة “المُوسم” وأهرب، أشتهي أن أُذكر عَجوزاً مُصابة بالزهايمر بإسم حبيبها الرَاحل وأهرب .. أَهكذا يا إلهي سَأكونُ أُحبّهــــــــــــــــا ؟ لكن إلى الهروب. طبعاً إلى السقوط تلو السقوط..
لطالما حلمتُ أن أكون أطول منها. كم هُو لذيذ سؤالها ذات حُلمٍ : لماذا أنتَ طويل ؟ سأُجيبها بكل تأكيد : لِأُجَرِّبَ كَيْفَ يراكِ اللهَ فوقاً. وَلِأُطَّهِرَ عينيّ بِرُؤَى اللهِ ثُمَّ أراكِ وَ أقْتَبِسُ مِنْ رِئَةِ السَّمَاءِ رُؤْيَةً أراكِ بِهَا. يا أنتِ أَنَا أَحِمِلُ طِفْلَتَنَا اللامَرئية عَلَى كتفيّ فَأَبْدُو طَوِيلاً. أَلَا تَرِينهَا ؟
تُنزلني من على باص المركز، لا يكفُ وجهها عن الإبتسام، تنشغلُ بتوظيب كرسيّ المتحرك وسائق الباص المُزعج دائماً يُصر أن يقحم اللحظة في زَمنهم ـــ الزمن الذي لستُ أفهم لماذا يَقيسون به كل لحظاتهم، لستُ أستطيع أن أقيس عَالمي بغير طرفات عيونها وهي تراني. إنها زمني ـــ طالباً منها أن تُسرع. لا تُجيب لكنها تبتسمُ بتؤدةٍ. تدفع الكرسي المُتحرك بخفةٍ شاعرية. فأُحس بالحياة وَرائي. هكذا عشقتُ ظِلي. الحياةُ تأتيتي وراءً تماما كما كالهواء الَّذِي يُحَركُ سُفُنَ الأطفال الْمَصْنُوعَة مِنْ “خنيشات” الْحَلِيب وَيَصْرُخُونَ بِنَشْوَةٍ وَراءها. و الْهَوَاءُ الَّذِي يُطْفِئُ شُمُوعَ عِيدِ الْمِيلاَد. و يُجَرِّبُ الشَّغَبَ أيضاً حِينَ يَنْفُثُّ الصَّدِيقُ فِي أُذنِ صَاحِبِهِ عَلَى غَفْلَةٍ ..
هَذَا الْهَوَاءُ هو عينه الذي يحمِّلُ أَحَجّارَ الصّبيّةِ أَعلَىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَيُغْرِي الْقِطَعَةَ النّقدِيَّة لِتَعْلُو وَتُحَدّدَ وِجْهَةَ فَرِيقٍ الأطفال. ربما هواية الهواء أن يدفع من الخلف بالأشياء والذوات إلى الأمام. لكن هوايتي أنـا أَن أَرَّاهَا فِي كُلِّ هَذَا الْهَوَاءِ، وَأُجَرِّبَ الْبَصَرَ فِي كُلِّ هَذهِ الْحَيَوات.
ـــ هَل يُزعجك السائق البدين ؟
ـــ لا أهتم لشأنه. لكني أحبّ صدقه في غضبه معنا. يُحسسني أني متفوقٌ على نقص جسدي. وأشبهكم.
ـــ يا عزيزي أنتَ كاملٌ جداً حدّ الذي يُربك المَرئي. نقاؤك أربكه حتى ارتبك في شكلك. فصرت هكذا. اللامرئي فقط من يستحقكَ عزيزي.
تُقبل رأسي. فأشعر بطيني يَتشققُ. لا تستطيع هذه القارورة الطينية أن تَحتمل كُل هذا الحجم من الحياة داخلي. يا إلهي إن جسدي يُكذبني ويُصدقها. يُكذبّ أني مُعاقٌ ، ويُصدقُ رؤيتها التي تراني بِها. لا أشعر أنه لي. أَحَقَاً يَا إلهي : أَنَا هذَا الَّذِي تَقْصِدُهُ بجسدي أَمْ هَذَا سَهْوٌ جَسديّ ؟
الآن تنسابُ أغنية الغيوان (سهــْلا وأهْلا بك يالنـّحـــْـلة وهنيـّة يالصّايلة صلـْت ع:لــَطيـارْ

غنّــي بيـــن النـّهــرْ والـزّهــرْ وخدودْ الزّينْ والعيونْ المــحّــــارة)
وأنتَ تُسلم رأسكَ للحلاق يُرتب شكله لشيء ما لا تدري جدواه. تتذكر كيف كانت تُلوح بيدها وهي تُغادر مركز ذوي الاحتياجات الخاصة صوب جغرافية بعيدة مـا. لماذا الهُنا لاَ يحمينا من البَعيد ؟ حزنٌ عَميقٌ يتكئ على عينيكَ كلما نزلت من على الباص، فيُرتب لكَ دمعتين خفيفتين تعلم أنهما لن تحميك من أية أعطاب، و لا من ذاكرتكَ ذاك الجرحُ المبثوث فيكَ دائماً.
غادرتكَ إلى إسبانيا، ما وراء البحر. حيث ستستقر مهنياً وستواصل رسالة الدكتوراه. الآن البحر يفصلكما. تبا هكذا صار البحر ــ بعدما كان عَزائي ـــ النية السيئة للأرض.
خلفكَ يجلس طالب جاء لمركز ذوي الاحيتاجات الخاصة لأجل بحث الماجستير، يسألكَ :
ـــ أريد أن أتوغل في الخريطة السرية للمعاقين، عفواً أقصد ذوي الاحتياجات الخاصة. هل سبق وأن أحببت ؟ هل تظفر بحقك في حبّ فتاة ؟ كيف هو نشاطك الجنسي ؟
كي تتفادى أية أجوبة أخرى، أجبته على مضض وبضغط متعمد على الكلمات. وأنت في جوانيتك تقنع ذاتكَ بهذه الحقيقة :
ـــ سيدي جسدي مسودة للطبيعة. تمرينٌ تحضيري لتأتي أنتَ هكذا سليماً ومقبولاً وتتعلم لعنة السؤال ..

المكتوب : الحب الأزرق

آآآآه يا صديقي،
هل أتأوه الآن أم أبكي أم أتنهد؟ هل تتصور كيف تخرج تلك الآه؟ كيف أجلس وأحشر رأسي بين ركبتي وأضغط عليه بقوة؟ هل تشعر بالقوة التي أضغط بها؟ هل تعلم أن حشر الرأس بين الركبتين أمر صعب جدا؟ أنا أفعلها. لأن ما يدفعني للأمر شيء صعب أيضا. شيء يجعلني أذرف النار غارقة في الملح، أضغط على رأسي بقوة عل الألم يخرج مع كل ما أذرفه. اليوم أنا عاجزة وأكتشف أن لا شيء وفي. لا شيء باق معك. لا الصوت ولا الصمت، لا اللغة ولا اللون. أكررها مجددا ببطء، لا شيء. في موقف كالذي حدث معك، كل شيء أشاح بوجهه بعيدا وتركني أرتعش وحيدة وعارية. ذلك المساء تخلى عني كل شيء، حتى كأس القهوة لم تساعدني في إلهاء الوقت لأفكر قليلا كيف أرد. و أنت أمامي تقول أنك تحبني، تنظر إلى رأسي المنحني وتنتظر، كلما حاولتُ أن أنطق لأوضح لك، يغرق كل شيء. كان من غير اللائق أن أحمل هاتفي تلك اللحظة، لكنني حملتُه لأكتب ما فشلتُ في قوله، لكن اللغة التي سحبتُ نحوي أيضا، أتتني جوفاء، فارغة. لا أستطيع أن أصدق أن قلبي المذبوح، تحول إلى سكين يجرح قلبا فضيا، اختارني له ماسة زرقاء. لا أستطيع أن أصدق أن قلبي الطافح بالحب، لا يستطيع أن يحبك أو يحب أي أحد آخر. أشعر بضرورة الاعتذار من أي شخص قلت له “أحبك” لم تكن صادقة أبدا.. كانت شيئا لحظيا لم أخسر شيئا في قوله. لم أتوقع أن تنقلب الأمور معي بهذا الشكل. لم أتصور أن يأتي يوم أجلس فيه جلسة اللقاء الأخضر القديم، لكن بشكل معكوس. حين كنت العاشقة المجروحة، كيف أتحول إلى معشوقة جارحة؟ إنني أتألم بشدة. إنني أتأوه وأبكي و أتنهد وأضغط على رأسي بقوة.
آآآآآه يا صديقي،
لماذا أحببت أزرقي؟ لماذا فكرت أن تهديني ديوانا شعريا لسركون بولص؟ لماذا أنت من مواليد برج الأسد؟ لم أنت متصوف في الحب؟ لم قلتَ أنك انفصامي؟ أتعلم أنني أيضا انفصامية جدا؟ تأكدت من ذلك حين سألتني عن اسم الحب الذي اخترتُ أن أحمله بقلبي بدل أن أجن، لأن صاحبه بعيد. أخبرتك عنه معلومة واحدة فقط، فذكرت اسمه بسرعة وثقة غير متوقعة. كان صوتك زلزالا ارتج له قلبي. حركتُ كأس القهوة من مكانه لأفكر قليلا، انفصمت عن نفسي بسرعة البرق كي لا أنهمر أمامك. أنكرتُ بنظرة واثقة، شعرتُ بك تتلصص على عيني اللتان لا تكذبان، جعلتهما حينها يقولان ما أريد، نفيتُ اسم من ذكرت تماما وأقنعتُك أنك على خطأ. سألتك بفضول ماكر وبارد، لم اعتقدتَ أنه هو؟ استغربت من ردك عن الحرارة البادية بيننا، تدلت ملامحي نحو الخارج مستغربة أكثر، سألتك عن أية حرارة تتحدث؟ استدركت حينها أنك قصدت حرارة حديثي عن آخر اصداراته. سأخبرك الآن بأنك كنت على صواب. إنه هو، من اخترتُ أن أحبه إلى ما لانهاية، دون أن أنتظر منه أي شيء، يكفيني أن أتوهم أنه يحبني، سأخبرك بسر يا صديقي.. لا أدري لماذا أؤمن أنه يحبني أيضا، يحبني كما أحبه أنا أو أكثر. حب روحاني مرتفع جدا. حب لا يحتاج حضور الآخر جسديا، حب لا ينتظر أن تمد الكلمات يدها لتساعده على الوقوف. حب سيجعله بنفس القدر بقلبي وإن تحول إلى حجر. أعلم أنني قد أخطئ، أعلم أنني سأخطئ، وأنا أبحث عن طول رقبته، عن لونه، عن الكلف الموضوع على خده بجمال، سأبحث عن سنه الأعوج، عن عينيه الغائرتين الحزينتين الشهيتين، عن ذوقه الفني.. أعلم أنني إن صادفت هذه الأمور سأتقدم نحوها كطفلة. أعلم أنني في لحظة إدراك سأنسحب وأندم قليلا وأمضي. أعلم أشياء كثيرة، لكن علمها لا يغير شيئا.
آآآآآه يا صديقي،
ما كل هذا النزيف؟ لم على الحياة أن تزدحم بالدوائر؟ لم أتى حبك بعد ليلة رأيته فيها مبتسما في وجهي؟ هذه أول مرة أحلم به بهذا القرب. كانت أنفاسه شهيقي. كل ما كان يفصنا، وشاحي الأبيض الشفاف، الذي ألصقته الريح على وجهه المبتسم لأول مرة. أحشر رأسي بين ركبتي وأتأوه، هذا الأزرق الذي أحببتَ، مرتبط بكدمة كلما لمستُها سرى شيء كالموسيقى بروحي. أتعتقد أنني لم أنتبه لقميصك الأزرق خلال موعدنا؟ أنا يا صديقي أنظر و أسمع بحساسية مفرطة، أنا هكذا دون أن أقصد. يا إلهي كم ذكرتني به، أعلم أنه مؤلم جدا أن تجد نفسك تحرث لشخص آخر. لقد ذكرتني بأول موعد لي مع الحب الأزرق قبل خمس سنوات، بالصدفة التي آتى فيها ببدلة زرقاء وأتيتُ بقميص وجينز وحلق باللون الأزرق. ذكرتني كيف تحدث عن حبه للأزرق وكيف ناسبني، أوجعتني الفكرة بكلها، جعلتني أفكر أن من أحبه قد يكون مرتبطا بأزرق امرأة أخرى، لم يستطع حبي لأنه يحب أخرى. قد يكونان الآن معا. لستُ أدري. لا أريد أن أتخيل.. كل هذه الأفكار أطوح بها بعيدا وأؤمن بما أريد وما يريحني. أتعلم ما الذي آلمني أكثر؟ حين قلت أنك ستنهج نهجي، ستحبني بعيدا عني، سيكفيك النظر إلى عيني من حين لآخر، ستكتفي بروحي ما دام القالب لن يتفاعل معك على الإطلاق. هذا موجع، لا أريد لك مكتوبا كالذي أعيش. قلبك المحب شاسع يا صديقي، يستطيع أن يسع كل الألوان. دعني وحدي أتأوه وأبكي وأتنهد.